سورة النور - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


قلت: {ليستخلفنهم}: جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و{كما}: الكاف: محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي: استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و{ما}: مصدرية. و{ويعبدونني}: حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و{لا يشركون}: حال من واو {يعبدونني}.
يقول الحق جل جلاله: {وعد الله الذين آمنوا منكم} أي: كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم. و (من): للبيان. وقيل: للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط. {وعملوا} مع الإيمان الأعمال {الصالحات}، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره في قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29]؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
ثم ذكر الموعود به، فقال: {لَيستخلفنَّهم في الأرض} أي: لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض: أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار»، {كما استخلف الذين مِن قبلهم}؛ كبني إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 13].
{وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم}: عطف على {ليستخلفنهم}، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها فب الاستمالة أدخل، والمعنى: ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصف بقوله: {الذي ارتضى لهم}، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. {وليُبدِّلنهُمْ} بالتشديد والتخفيف من الإبدال، {من بعد خوفهم} من الأعداء {أمناً}.
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بلمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة»، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها.
وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل: الخوف والأمن في الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال: {يعبدونني} وحدي، {لا يُشركون بي شيئاً} أي: حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء، شركاً جلياً ولا خفياً؛ لرسوخ محبتهم، فلا يُحبون معه غيره، {ومن كَفَر بعد ذلك} أي: بعد الوعد الكريم، كفرانَ النعمة، أو الرجوع عن الإيمان، كما فعل أهلُ الردة، {فأولئك هم الفاسقون}؛ الكاملون في الفسق، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها، قيل: أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء- رضي الله عنهم-.
ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ}؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر، وكان من الفاسقين. {وأطيعوا الرسولَ} فيما دعاكم إليه وأمركم به، ومن جملة ما أمر به: طاعة أمرائه وخلفائه؛ لقوله: «عليكم بسنتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ»، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته- كما فعل أهل الردة- فقد كفر، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة، لقوله: {لعلكم تُرحمون} أي: لكي تُرحموا، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: سنة الله تعالى في خواصه: أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق، ثم يُعزهم، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما قال الشاذلي رضي الله عنه: اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا... إلخ كلامه.
قال القشيري: وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال: فأما حُفاظ الدين؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف: قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. اهـ. تقدم ومثله في قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122]. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {لا تحسَبنَّ الذين كفروا مُعْجِزِينَ} أي: فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم، في قُطْرٍ من أقطار الأرض، بل لا بد من أخذهم، عاجلاً أو آجلاً، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. و{الذين}: مفعول أول، و{معجزين}: مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب، و{الذين}: فاعل، والأول، محذوف، أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين {في الأرض}. و{مأواهم النار}: معطوف على محذوف، أي: بل هم مُدْرَكُونَ، {ومأواهم النار} أي: مسكنهم ومرجعهم، {ولبئس المصيرُ} أي: والله لبئس المرجع هي. وفي إيراد النار، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب، من الجزالة ما لا غاية وراءه. والله تعلى أعلم.
الإشارة: لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون، بل لا بد من غيرة الله عليهم، عاجلاً أو آجلاً، في الظاهر أو الباطن، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية: الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل، وما لذلك بقاء، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ، أي: الحر. اهـ. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا}، ويدخل فيه النساء، {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين ملكت أيمانُكُم} من العبيد والإماء، {والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم} أي: والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار، {ثلاثَ مراتٍ} في اليوم والليلة، وهي {من قبلِ صلاة الفجر}؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ما ينام فيه من الثياب، ولبس ثياب اليقظة، وربما يجدهم في هذا الوقت نائمين متجردين، {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة}؛ وهي نصف النهار في القيظ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة، {ومن بعد صلاةِ العشاء}؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، والالتحاف بثياب النوم. هي {ثلاثُ عوراتٍ لكم}، ومن نصبه؛ فَبَدلٌ من {ثلاث مرات} أي: أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها، والعورة: الخلل، ومنه سمي الأعور؛ لاختلاف عينه.
رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ، فنزلت. وقيل: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنصاري، وكان غلاماً، وقت الظهيرة، ليدعو عُمر رضي الله عنه، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر رضي الله عنه: لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية. والأمر، قيل: للوجوب، وقيل: للندب.
ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات، فقال: {ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ} أي: لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث، أي: في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.
ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله: {طوَّافون} أي: هم {طوَّافون عليكم} لحاجة البيت والخدمة، {بعضُكم على بعضٍ} أي: بعضكم طائف على بعض، أو يطوف على بعض، والجملة: إما بدل مما قبلها، أوبيان، يعني: أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج، وهو مدفوع بالنص، {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي: كما بيّن الاستئذان، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها، {والله عليمٌ} بمصالح عبادة، {حكيم} فيما دَبَّرَ وحكم به.
{وإذا بلغ الأطفالُ منكم} أي: الأحرار دون المماليك {الحُلُمَ} أي: الاحتلام، وهو البلوغ، وأرادوا الدخول عليكم {فَلْيَستأذِنوا} في جميع الأوقات. قال القرطبي: لم يقل: {فليستأذنوكم}، وقال في الأولى: {ليستأذنكم}؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبَدين. اهـ. قلت: فالمخاطبون في الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به، وهنا صاروا بالغين، فأمرهم بالاستئذان {كما استأذن الذين من قبلهم} أي: الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم، وهم الرجال المذكورون في قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] الآية. والمعنى: أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحُلُمَ وَجَبَ أن يُفطَمُوا عن تلك العادة، ويُحملوا على أن يَسْتَأْذِنوا في جميع الأوقات، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله، وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} [النساء: 8]. وعن سعيد بن جبير: (يقولون: إنها منسوخة، والله ما هي بمنسوخة). وعن ابن عباس أيضاً قال: إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبي محمد مكي: هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت: أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ؛ فلا تكفي الأبواب في حقهم، فلا بن من الاستئذان كما في الآية.
{كذلك} أي: مثل ذلك البيان العجيب {يُبين الله لكم آياته}. قال ابْنُ عرفة: قال قبل هذه وبعدها: الآيات، وفي هذه: آياته؛ لوجهين، الأول: هذه خاصة بالأطفال، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال، فأطلقت الآية، ولم تقيد بالإضافة، وهذه خاصة، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني: أن الخطاب بما هنا للبالغين، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم. اهـ. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشي الفاسي. {والله عليمٌ حكيم} فيما أمر ودبر.
الإشارة: إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يُكشف السر إلى غير أهله؛ غَيْرَةً منه تعالى على كشف أسرار عباده، وإذا كان غار على كشف سر عبد، فَغَيْرَتُهُ على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له، وهو من أَعْطَى نفسه وماله، وباعهما لله تعالى. وكل من أُطْلِعَ على سر من أسرار الله أو قضاء من قضائه، ثم استشرف أن يُعْلِم الناس بذلك فهو كذاب. وفي الحِكَم: (استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك). وبالله التوفيق.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11